التحلل الأخلاقي ( صراع الشيطان والملائكة) 

 

 

اللواء الدكتور  سعد معن إبراهيم

في عالم يتسع فيه الشر وتكثر فيه التبريرات ، تصبح الحاجة لفهم النفس الإنسانية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى كيف يفعل الإنسان ما يعلم أنه مؤذ ثم يمضي في حياته واثقا من صلاحه كيف تُرتكب الأخطاء الجسيمة بأيد واثقة وضمائر مطمئنة بل وفخورة أحيانا ليست هذه أسئلة فلسفية مجردة بل مفاتيح لفهم سلوك البشر حين تختلط الأخلاق بالمصالح الشخصية ويُعاد تشكيل الخير والشر بقوالب مختارة في أذهان الناس

 

عالم النفس ألبرت باندورا في كتابه (التحلل الأخلاقي ) قدّم تفسيرا بالغ العمق لهذه المفارقة حين بيّن أن الإنسان لا يحتاج دائما إلى أن يكون شريرا ليرتكب الشر بل يحتاج فقط إلى أن يُعيد تعريف ما يفعله وفق ما يرغب …. نحن لا نكذب بل نحمي شعور الآخر لا نخذل بل نتصرف بحكمة لا نظلم بل ننفذ القانون وهكذا تتحول الانتهاكات الأخلاقية إلى مواقف مبررة ويستمر الفاعل في رؤية نفسه كإنسان مثالي بل وربما كبطل في بعض الأحيان

 

التحلل الأخلاقي ليس خللا عند قلة من الناس بل هو آلية جماعية نلجأ إليها حين يصبح الاعتراف بالحقيقة مكلفا والمساءلة محرجة والمكاشفة موجعة ، نُجمل القبح بألفاظ ناعمة ونُلبس الظلم ثوبا ملائكي ونقول كلنا مسؤولون حتى لا يُحاسب أحد لا أحد يريد أن يكون الطرف السيئ لذلك نُجمّع الأخطاء ونسكبها في وعاء الغموض الجمعي ونمضي

 

اللغة هنا تلعب دورا حاسما فالكلمات ليست محايدة حين نقول وقع خطأ ميداني بدلا من قُتل بريء نحن لا نخفف وقع الحدث بل نقتل الحقيقة مرة ثانية حين نقول الأوضاع معقدة فإننا لا نشرح الواقع بل نهرب منه الكلمات تصنع الوعي وإن أخفقت في تسمية الجرح فلن يستطيع الضمير أن يشعر بالألم

 

وإذا وقع الخطأ يبدأ الناس في البحث عن مخرج فيُلقى اللوم على الماضي أو على جهة مجهولة أو على الظروف ….لا أحد يعترف لا أحد يتحمل المسؤولية تتبخر وتصبح قضية الجميع مما يعني أنها قضية لأحد ….يصبح الخطأ شبحا بلا فاعل والضحايا مجرد أرقام

 

بل الأدهى من ذلك أن الإنسان حين يُواجه بحقيقة الظلم لا يُسارع إلى إنكاره فقط بل يسعى لتجريد الضحية من إنسانيتها يُفتش في ماضيها يُساءل أخلاقها يُقلّب انتماءها كأن استحقاق الحياة مشروط بالنقاء المطلق هذه ليست عدالة بل التفاف نفسي لحماية صورة الذات من التصدع لأن الاعتراف بالخطأ يعني أن نتخلى عن صورة الطيب الذي لا يخطئ وهذه صورة نادرا ما يجرؤ الناس على المساس بها

 

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في الشر نفسه بل في القابلية لتبريره في قدرتنا على الاستمرار كأن شيئا لم يحدث في مهارتنا في تزيين القبح وتسويق الخطأ هكذا يتحول الضمير من جهاز إنذار إلى صوت خافت بالكاد يُسمع وربما يصمت تماما وهكذا تصبح الأخطاء مجرد تفاصيل وتتكرر لأن أحدا لم يعترف بها ولأن الحقيقة لم تجد من يرفع رأسه ليقول نعم لقد أخطأنا

 

إذا أردنا الإصلاح لا نحتاج إلى سيل من القرارات بل إلى لحظة صدق ، إلى شجاعة الاعتراف ، إلى تسمية الأمور بأسمائها إلى أن يتوقف الإنسان عن الكذب على نفسه قبل أن يكذب على غيره ، أن يعيد وصل ما انفصل بين سلوكه وضميره أن يتساءل هل أنا أبرر فعلي أم أقف في صف الحق

 

ليس المطلوب أن يكون البشر ملائكة بل أن يكونوا صادقين أن يعترفوا حين يخطئون أن يتوقفوا عن تغليف الألم بورق الهدايا أن يتعلموا أن السكوت عن الخطأ مشاركة فيه وأن التبرير بوابة الخطر الأكبر

 

التحلل الأخلاقي ليس قدرا بل قرار ، والضمير لا يموت فجأة بل يُخدّر على جرعات وكل مرة نسكت فيها عن الظلم أو نلتمس لأنفسنا الأعذار أو نغض الطرف عن الحقيقة فإننا نضيف طبقة جديدة من العزل بيننا وبين الإنسان الذي نود أن نكونه

 

زر الذهاب إلى الأعلى