زيارة الأربعين.. ذروة العمل التطوعي وموسم العطاء الإنساني

 

شمخي جبر

العمل الطوعي هو عمل نمارسه بحريتنا ونقوم به بدافع ذاتي، برغبتنا دون إكراه، منطلقين نحو هدف تطوير الذات والمجتمع، لا يهدف إلى الربح المادي. والمتطوع في أعمال كهذه هو من يبذل نفسه أو ماله لمجتمعه بلا مقابل وطواعية دون إكراه.

عرّفت الأمم المتحدة العمل التطوعي بأنه “عمل غير ربحي، لا يُقدَّم نظير أجر معلوم، وهو عمل غير وظيفي/ مهني، يقوم به الأفراد من أجل مساعدة وتنمية مستوى معيشة الآخرين، من جيرانهم أو المجتمعات البشرية بصفة مطلقة.”

وهناك الكثير من الأشكال والممارسات التي يندرج تحتها العمل التطوعي، من مشاركات تقليدية ذات منفعة متبادلة، إلى مساعدة الآخرين في أوقات الشدة وعند وقوع الكوارث الطبيعية. وقد اعتمد يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، من قبل تجمع الأمم المتحدة في قرارها رقم 40/212 في 17 كانون الأول 1985، يومًا للتطوع.

ثروة عامة

العمل التطوعي يشكل ما يمكن تسميته بـ (رأس المال الاجتماعي)، فهو ثروة عامة ليست حكرًا لأحد. في المجتمعات المتقدمة تتخلى الدولة عن بعض الحلقات الخدمية، أو الاجتماعية والثقافية والإعلامية، ليقوم بها المجتمع من خلال القطاعين الثاني (القطاع الخاص) والثالث (المجتمع المدني). من هنا ظهرت مفاهيم لمجتمعات جديدة كمفهوم (مجتمع الشبكات). ويعرّف (فان ديك) مجتمع الشبكة بأنه “مجتمع مكوّن من الشبكات الإعلامية والاجتماعية التي تشكل هيأته الأساسية وبنيته الرئيسة على كافة المستويات (الشخصية، والمنظمة، والمجتمعية).” ويُقارن هذا النمط بمجتمع شامل من المجموعات والمنظمات والمجتمعات المنظمة بشكل فيزيائي. ووفقاً لـ(كاستلز)، فإن الشبكات تشكل التحولات المجتمعية الجديدة في مجتمعاتنا. وقد وجد العلماء أن التطوع للعمل الخيري وسيلة لراحة النفس والشعور بالاعتزاز.

وجهة نظر إسلامية

وقد أشارت “العديد من النصوص الدينية في الكتاب والسنّة إلى أهمية التكافل والتعاون، فكان هناك عدد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي توضح الحث على العمل التطوعي، الذي هو بمثابة صدقة في الإسلام.

* قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى” (المائدة: 2)،

* “ومن تطوع خيرًا فهو خير له” (البقرة: 184).

ومن الأحاديث الشريفة:

* “إن لله عبادًا اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم للخير وحبب الخير إليهم، أولئك الناجون من عذاب يوم القيامة.”

* “لأن تغدو مع أخيك فتقضي له حاجته خير من أن تصلي في مسجدي هذا مائة ركعة.”

* “خير الناس أنفعهم للناس.”

والحديث الأخير يشير إلى نفع الناس أجمعين، وليس نفع المسلمين فقط.

زيارة الأربعين

تمثل زيارة الأربعين لحظة تجديد للتمسك بالمبادئ التي خرج من أجلها الإمام الحسين عليه السلام:

“إني ما خرجت أشِرًا ولا بطِرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي.”

و “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد.”

و”لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً.”

في يوم زيارة الأربعين، الذي يصادف الـ 20 من صفر من كل عام، وقبله وبعده، يقوم الملايين من العراقيين بأعمال تطوعية كثيرة، منها التبرع بالمال، وإعداد الطعام والشراب، وتوفير المأوى للزائرين، وتوفير المستلزمات الصحية، ومساعدة المحتاجين والفقراء، ورفع الأنقاض، وحفظ الأمن، والتوجيه الديني والثقافي.

ولا يكاد يخلو بيت، ليس في كربلاء وحدها، بل في جميع المحافظات تقريبًا، من القيام بعمل تطوعي أو أكثر، استجابة للنداء الديني وطلبًا للمغفرة والثواب من الله عز وجل. ولعل الطرق الواصلة بين محافظة كربلاء والمحافظات الأخرى تشهد على هذه الأعمال والأنشطة الخيرية التطوعية.

لقد كان لزيارة الأربعين إسهام كبير في زيادة وترسيخ الوعي الاجتماعي وثقافة العمل التطوعي، من أجل خدمة الزائرين، أو تقديم العون للفقراء والفئات الهشّة، وإشاعة قيم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وتمتين التماسك الاجتماعي. وكان للشباب الدور الأكبر والأعظم من خلال عشرات الآلاف من المواكب التي تقدم الخدمة للزائرين، وكانت تعبيرًا عن الكرم والإيثار، انطلاقًا من الاقتداء بصاحب الذكرى وأهل بيته وصحبه الأطهار.

ولما كانت زيارة الأربعين تجمعًا فريدًا ومتميزًا، وروحها هذا العطاء المجاني المتدفق، فإن قرار مجلس الوزراء العراقي (70 لسنة 2020) قد اعتبر أربعينية الإمام الحسين يومًا عراقيًا للعمل التطوعي، يُكرَّم فيه المتطوعون، وتُذكَر فيه نشاطاتهم وأعمالهم الإنسانية والخيرية.

ما يميز أربعينية الإمام الحسين عليه السلام هو أنها أكبر تجمع تطوعي في العالم: تطوع في الأموال، تطوع في الطعام، تطوع في السير على الأقدام، تطوع في خدمة الزائرين والحاجّين، تطوع في توفير حاجات الزائرين من سكن ولباس، وعلاج وتعليم، ونقل واتصالات… ومعظم تلك الخدمات تُقدَّم للملايين.

إنّ الأعمال التطوعية التي يقوم بها عشرات الآلاف من المتطوعين المؤمنين من خلال آلاف المواكب، ولعشرات الملايين من الزائرين، لا يمكن لأية دولة أن تقدم مثلها لهذا السيل العارم من السائرين نحو كربلاء الحسين عليه السلام، كما لا يمكن إدارة شؤونهم بهذا النظام والانضباط الذي يثير الإعجاب، بل والانبهار.

 

زر الذهاب إلى الأعلى