الشك يُفسَّر لصالح المتهم… حينما تصبح الحقيقة رهينة بين القضاء والرأي العام
المحامي احمد عادل العابدي
في ميزان العدالة، هناك قاعدة لا تسقط بالتقادم، ولا تنحني أمام العاطفة أو ضغط الشارع، وهي قاعدة: “الشك يُفسَّر لصالح المتهم”. قاعدة ليست ترفًا قانونياً، بل صمّام أمان يضمن أن لا يُدان إنسان إلا بدليل قاطع لا يداخله شك، لأن إدانة بريء جريمة مضاعفة لا تقل خطراً عن ترك الجاني حراً.
حادثة وفاة الطبيبة النفسية بان زياد طارق في البصرة، والتي وُصفت رسمياً بأنها حالة انتحار، سرعان ما تحولت إلى لغز جنائي مثير. فالتقارير الأولية، وشهادات من عايشوها، طرحت علامات استفهام كبرى: جروح قطعية عميقة في الذراعين، كدمات على الوجه والرقبة، دماء على الملابس… مع تضارب هذه المشاهدات مع صورة طبيبة شابة في أوج نشاطها المهني وحياتها الاجتماعية.
هنا، يتدخل المبدأ القانوني بحزم: أي متهم، وأياً كان موقعه، يبقى بريئاً حتى تثبت إدانته بالأدلة اليقينية. فالتحقيقات الجنائية لا تبنى على الانطباعات، بل على الحقائق العلمية. ومع ارتفاع حرارة الجدل الشعبي، يبقى واجب القضاء أن يحافظ على برودته، وأن يصون مسافة الأمان بين الحقيقة والافتراض.
هذه القضية ليست فقط اختباراً لمدى نزاهة التحقيقات، بل لصلابة المؤسسات أمام رياح التأثير الإعلامي. فالقضاء مطالب بأن يسير بخطى ثابتة، لا يسرّع الخطوة لإرضاء جمهور، ولا يبطئها خوفاً من اتهام. إن العدالة الحقيقية تتطلّب أن يصل التحقيق إلى “اليقين”، لا إلى “الرضا العام”.
ولعل درس بان زياد، إن لم يكن في كشف الجاني أو إثبات الانتحار، فهو في تذكيرنا بأن القانون ليس أداة انتقام، بل أداة توازن بين حق المجتمع في معرفة الحقيقة، وحق الفرد في محاكمة عادلة. فالشك هنا ليس ضعفاً في العدالة، بل قوتها… لأنه الدرع الأخير أمام ظلم قد يرتكب باسمها.
في النهاية، قد يختلف الناس في تفسير الوقائع، وقد تتباين الروايات، لكن صوت القانون يجب أن يظل واحداً: إذا وُجد الشك، فليكن في صف المتهم… حتى يثبت العكس بالبرهان، لا بالظن.