“وَجْه وعَباءَةٌ سَوداءُ”
فرح تركي
لا أَتذكَّرُ إِلَّا وَشْوَشةَ ذِكرياتٍ، وَجهَ أُمٍّ مُسِنَّةٍ ، غَادرتُها في أَوضاعَ صَعبةٍ لمْ تُؤَهِّلْني لِأَحتفِظَ بشيءٍ منَ الذكرياتِ !. غائِبٌ كلُّ شيءٍ ! ، حتَّى أَنَّني ارتَبكْتُ وسَائقُ التَّكْسي يَضعُ حَقائبي
في سَيَّارتِهِ تَمهيدًا لانْطلاقِنا نحوَ بَيتي ، بَيتي!؟ الحَمدُللهِ ؛ أَنَّني أَمْلكُ أُمًّا ، وبَيتًا في بلادي ، بعدَ كلِّ الإِغتِرابِ الذي لَثمَهُ جِلدي، وقَاساهُ ضَميري!. خَرجتُ و بِيَدي جَوازُ سَفرٍ، ودَمعةٌ في العينِ، وحَسرةٌ تُغلِّلُ شَبابي . والآنَ عُدتُ بتَجاعيدِ وَجهٍ ، وأَموالٍ ، وشُهْرةٍ ، ولكنَّني لا أَعرفُ نَفْسي! . سنواتٌ منَ التَّغرُّبِ والأَسى! ، ماتَ أَبي دونَ أَنْ أَراهُ قبلَ مَوتِهِ! ، وكُنتُ دائمًا أَعِدهُ في كُلِّ سَنةٍ : هذهِ السَّنةَ ستَكونُ الأَخيرةَ مِنْ عُمرِ غُرْبتي ، ولكنَّني تأَخَّرتُ!.
رَجلٌ بلا ذِكرياتٍ، بلا أُسْرةٍ ، بلا أَبناءَ ، أَبْحثُ عنْ مَهْدي الذي انْبَجسَتْ مِنهُ طُفولَتي العَرجاءُ نحوَ اللاشيءِ!..
سِلاحي فُرْشاتي ، ورَفيقَتي هي لَوحتي … أَعْطيتُهُ عُنوانًا عامًّا ؛ مُوضِحًا أَنَّني سأَصِفُ لهُ بالتَّفصيلِ عندَما نَصلُ ، وافقَ بسُهولةٍ وكأَنَّهُ يَعرفُ مِن عَددِ حَقائبي وهَيئَتي التِّيهَ الذي أَغرقُ فيهِ! ، مَظْهري الأُوربيُّ الذي يَفْضحُني ، رُبَّما جَعلَهُ يُوافقُ بسُرعةٍ و سُهولةٍ ؛ لأَنَّني سأَكونُ لهُ صَيدًا سَهلًا لا أُفاصلُهُ في السِّعرِ؛ فيَرتاحَ هوَ في رِحلتِنا.
أَ هذهِ هي مَدينتي التي كانتْ تَغصُّ بالأَحزانِ! ؟ ، الشوارعُ تَرفُلُ بالسِّيَّاراتِ الفارهةِ ، الناسُ، كلُّ الناسِ يظهرُ عَليهمْ وِشاحُ النِّعمةِ ، ويَبدونَ واثقينَ ، مُرتاحينَ. يا وَيحي أنا! فقَدْ فَرَّطتُ في كلِّ هذا بسَببِ الخوفِ.
رُبَّما ما فعلتُهُ كانَ صوابًا ، رُبَّما تَكونُ تلكَ المَرأَةُ، التي هي أُمِّي تُخفي في مَلامِحها حنانَ تلكَ السَّنواتِ العِجافِ، لكنْ كيفَ شَكلُها الآنَ!؟. إِنِّي أَتخيَّلُها بلا مَلامحَ.
أَشكُّ في قُدْرتي على التَّواصلِ معَ شَبحِ امْرأةٍ تَركتُها وراءَ الجُدرانِ؛ لِأَعيشَ أنا في الحُريَّةِ ، وتَبقى هي حَبيسةَ الجُدرانِ.
تَوقَّفتْ بنا السَّيَّارةُ؛ كانَ الإِزدحامُ في ذُروتِهِ. كنتُ أَبْتسمُ كُلَّما وَجدتُ شَجرةً على الرَّصيفِ، وكنتُ أَودُّ التَّرجُّلَ منَ السَّيارةِ؛ لِأُعانقَها، وأَتاكَّدَ مِنْ كَونِها راسِخةً، وأَصيلةً. مَضى الكثيرُ مِنَ الوَقتِ وأنا أَتصفَّحُ في جَوَّالي، الذي تُشيرُ بَطاريَّتُهُ إلى قُربِ انْتِهائِها!، يَستَلْزمُ الأَمرُ نَظرةً على آخِرِ صُورةٍ تَجمعُني بأُمِّي، حتَّى ولو كانتْ قديمةً ، سيَخرجُ منها العِطرُ، ستَكونُ آدميَّتي حقيقةً.
سأَحتفِظُ بلحظاتٍ صادقةٍ ، ستَكونُ المَرأَةُ التي تَستقْبلُني بعَباءَتِها السَّوداءِ هي أُمِّي، وإِنْ تَبدَّلتْ صُورتُها، أَوْ هَرَمَتْ مَلامحُها وتَغيَّرتْ؛ سأُميِّزُها منَ العِطرِ، مِن عَبَقِ العَباءَةِ، والتَّماسُكِ بهذا البِناءِ الذي أَفْنى أَبي عُمُرَهُ فيهِ!.
تَوقَّفَ السائقُ مِن جديدٍ ، طالَعَني بدَهشةٍ ،وهوَ يُخبرُني : _متى تَبْدأُ بالوَصفِ الدَّقيقِ؛ فقَدْ وَصلْنا دِيارَكَ! ؟ . وَدَدتُ تَفقُّدَ المكانِ الذي نحنُ فيهِ لكنَّهُ مُختلِفٌ ، كلُّ المَنازلِ التي أَعرفُها، بَدْءًا منَ الشَّارعِ الرَّئيسِ، إلى بابِ بيتِنا، مَجهولةٌ بالنِّسبةِ لي! ؛ فلا إِشارةٌ ، لا نُقطةٌ دالَّةٌ . حاولَ المِسكينُ استِخدامَ التِّكْنولوجيا في إِيجادِ ضالَّتي لكنَّهُ فَشِلَ! . في النِّهايةِ ، اقْترحْتُ عليهِ أَنْ يأْخذَني الى فُندقٍ قريبٍ؛ أُقيمُ فيهِ، عَسى أَنْ لا يَطولَ مُقامي! في مَدينةٍ، تَغيَّرتْ شَوارِعُها ، وناسُها، وتَغيَّرَ حتَّى الهواءُ فيها . ما أنا إِلَّا سَائِحٌ!، والكُلُّ يُعاملُني كالغَريبِ، ويَرمُقُني بنَظرةٍ، كالطَّريدةِ التي هي مَحطُّ استِغلالٍ؛ فَقَدْ تَكونُ حَفْنةُ الدُّولاراتِ التي في مِحْفظَتي غَنيمتَهُمُ المُرتقبَةَ، وهيَ السَّببُ!. أَحدُ أَسبابِ نَجاحي: هو تَقبُّلي الرَّفضَ مِنَ الآخَرينَ؛ وهذا يَجعلُني لا أُقيمُ حَدًّا للإِختلافاتِ في تَصرُّفاتِهمْ ، أَو رُبَّما لجَشعِهمْ . هو دَرسٌ صَعبٌ أَنْ يُطبِّقَهُ الإِنسانُ الشَّرقيُّ، الذي نَما في بِيئةٍ بَسيطةِ الرُّؤى، والأَفكارِ،والتي تَعُدُّ حَقَّكَ في التَّكتُّمِ ، أَوِ الإِعلانِ عنْ أَيِّ شَيءٍ في حياتِكَ قِيمةً مَشْطوبةً؛ فنحنُ نعيشُ في مُجتمعٍ مُتحضِّرٍ، قانونُهُ إِفريقيُّ القَبيلةِ : حيثُ لا مُلكيَّةٌ خاصَّةٌ سِوى المِشطِ!.
في تلكَ اللَحظةِ، وأَنا في حَمَّامِ غُرفتي في الفُندقِ، وَقعتْ عيني على المِشطِ الذي يَصطفُّ بانتِظامٍ، مع فُرشاةِ الأَسنانِ، والغُسولِ، وكلُّ شيءٍ في غِلافهِ؛ إِشارةً إلى مَاهيَّةِ استِخدامِهِمُ المُنتظِرةِ يَدي الدافئةَ؛ لتَفضَّ تلكَ الأَغلفةَ، وأُعالجَ بها سُمرتي، وعِطريَ العربيَّ، بما جادتْ به خِدمةُ الغُرفِ.
أَخذتْني ذاكرَتي إلى آخِرِ مِشطٍ كانَ في غُرفَتي، قبلَ أَنْ أُغادرَ بغدادَ، التي سَقاها الدَّهرُ المُرَّ، وبَقيتْ إلى الآنَ شامخةً، _وإِنْ كانَ كلُّ ذلك كِبرياءً _!.
كانَ مِشطي ذاكَ الأَكثرَ قُرْبًا مِنِّي، كُـنَّا في سُوقِ “البَيَّاعِ” الشَّعبيِّ، تَوقَّفتْ أُمِّي بعَباءَتِها السَّوداءِ العَبِقةِ بالأَصالةِ، مَدَّتْ يَدَها إِلى عَربةِ بائعٍ مُسنٍّ ، رَثِّ الثِّيابِ، وأنا أُحاولُ مَنعَها : _أُمِّي ، لقدِ اشْتَريتِ مَجموعةً منَ الأَمشاطِ قبلَ مُدَّةٍ، ولا تَزالُ جديدةً ، رَمقَتْني بنَظرةٍ حازمةٍ مَعناها : أَنِ اسكُتْ!، وهي تَجمعُ بعضَ الحاجِيَّاتِ البَسيطةِ، التي يَعرضُها البائعُ و تقولُ لهُ: _هذهِ ، وهذهِ ….، إلى أَنْ تَمَّتْ تَعبئةُ الكثيرِ مِنها في أَكياسَ بلاسْتيكيَّةٍ ،وَسطَ انْزعاجي وسَخَطي الواضِحَينِ!.
تَخطَّيناهُ، بعدَما أَعْطتْهُ المَبلغَ الذي حَدَّدهُ، لتَقولَ لي أُمِّي : _إِبني ، لاتَعلمُ، رُبَّما نِيَّتُكَ في مُساعدةِ الآخَرينَ هي مَن تَرفعُكَ في الدُّنيا قبلَ الآخِرةِ! ، إِنَّ جَبرَ الخواطِرِ نَعيمٌ …
_ولكنْ! كلُّ ما اشتَريتِهِ موجودٌ في بيتِنا، وبنَوعيَّةٍ أَفْضلَ، هكذا كانَ رَدِّي ،
إِبْتسمتْ، ثُمَّ قالتْ بثَباتِها المَعهودِ، _والأَكياسُ في يَدي تُخَشْخِشُ بصوتٍ يُشبهُ فَرحةَ ذلك البائعِ_ :
_رُبَّما يأْتيكَ يومٌ تَشتاقُ لهذهِ الرِّفْقةِ ، وللمِشطِ ، وتَبحثُ عمَّنْ يَبيعُكَ شُعورَ الرِّضا البَسيطِ في حياتِكَ . هذهِ
حياتي ، هذهِ بكلِّ آلامِها، أَودُّ أَنْ أُطلقَها دُونَ نِيَّةِ رُجوعٍ ،
حَذارِ مِنَ البَطَرِ يا مُرسلُ!.
ها أنا ذا بيَدي مِشطٌ فَخمٌ، وأَبحثُ عنْ بَيتي ، عنْ أُمِّي ، وعنْ ذلكَ البائعِ ، وعنِ السُّوقِ .
أَمسكتُ المِشطَ بيَدي، وخَرجتُ مِنَ الحَمَّامِ، لِأَرْتمي على فِراشي، وجَسَدي يَئِنُّ مِنْ تَعَبِ السَّفرِ، وقَلقِي في بَحْثي عنْ عُنْواني الحَقيقيِّ! .
يا إِلهي ، كيفَ تُهتُ! ؟ .
غَفوتُ، والمَرايا أَراها دُخانًا أَزرقًا ، أَراني أَلِجُ فيها كطائرِ الخُضيريِّ، المُلوَّنِ الرِّيشِ . أَجدُ في المَرايا عالَمًا ، أَرى ابْتسامةَ أُمِّي، وهي تُعِدُّ الكُبَّةَ التي أُحِبُّ! . تَعرفُ كيفَ تُرغمُني على الأَكلِ، وتَسحبُني مِنْ تَسْويفي، ودَلالي . هي تَختارُ أَطيبَ الأَكلاتِ، وتُعِدُّها؛ لِآكُلَ فَقطْ، ولِيَتغذَّى مُرسلُ! . كيفَ كنتُ كبيرًا في عينِها!. رأيتُ قُربَها قِطًّا أَبيضَ، لَمْ أَرَ ما يُشبهُهُ في الجمالِ، والبَراءةِ . كيفَ وَصلَتْ أُمِّي إلى داخلِ المِرآةِ!، هي، وطعامَها، وعِطرَها، والقِطَّ! ؟.
لاحظْتُ أَنَّها تَمُدُّ يدَها مِن بعيدٍ، وتُشير إِليَّ: _تَعالَ ، وكُلْ يا
مُرسلُ ، أَنْتظرُكَ، _تَعالَ، أَنْتظرُكَ طويلًا!… ثُمَّ اخْتفتِ الإِبتسامةُ التى على مُحيَّاها، لتَبكي بصَمتِها المُعتادِ.
وَجدتُ نَفْسي في تلكَ اللَحظةِ على سَريري، في غُرفتي، في الفُندقِ، بيَدي المِشطُ، الذي أَردتُ أَنْ أُسرِّحَ بهِ شَعري، ولكنَّني أُخذْتُ إلى نومٍ عميقٍ، والذي رأيتُهُ كانَ مَنامًا جميلًا! . قَطَعَ فِكري رَنينُ هاتفي الخَلويِّ.
كيفَ نَسيتُهُ! ؟. نَهضْتُ مِن مكاني؛ لِأَردَّ على المُكالمةِ، وكانَ صديقي (حَسَنُ): الذي لَمْ يَنقطعْ عنِّي طَوالَ السَّنواتِ الماضيةِ.
_مَرحبًا يا (مُرسلَنا) الغالي ، _ مَرْحبًا أخي الحبيبَ،
_أينَ أَنت؟
_في بغدادَ،
_ إِنَّنا نقفُ أَمامَ بابَ بيتِكَ منذُ ساعاتٍ، مُنذُ أنْ أَبلغتْني والدتُكَ الحاجَّةُ باحْتماليةِ وصولِكَ اليومَ.
ُأَغلقت الهاتفَ، وجدتُ نَفسي أَرقصُ كالطِّفلِ أَمامَ المِرآةِ! ، ولكنْ ما حَدَثَ للدُّخانِ الأَزرقِ!؟.
كانتِ التَّساؤلاتُ عنِ الدخانِ الأَزرقِ طَفيفةً؛ لذلكَ زالتْ بسُرعةٍ. سأَلتقي أُمِّي، وأَشمُّ عَبَقَ بَيتِنا، وأَسترجِعُ ذاكرتي، ولرُبَّما أَجدُ لَوحاتي القديمةَ، أَتوقَّعُ أَنْ تُرشِّحَ لي والدَتي عَروسًا مِنَ الجِيرانِ ، سأُسايرُها هذهِ المَرَّةَ ؛ لَمْ يَبقَ مِنَ العُمرِ الكثيرُ.
بعدَ ساعاتٍ، كانَ (حَسنُ) في بَهوِ الفُندقِ، عِندَما لَمحتُهُ مِن بعيدٍ خُيِّلَ لي لوَهلةٍ أَنَّهُ يُشبهُ القِطَّ الأَبيضَ!؛ لرُبَّما تكونُ الإِضاءةُ هي السَّببُ ، لا عَليكمْ رُبَّما هذا كلُّهُ مِن إِرهاقِ السَّفرِ وقِلَّةِ النَّومِ. بدِفْءٍ، وحماسٍ استَقْبلَني، سأَلَني عنْ أَمتِعتي ؟، أَخبرتُهُ أَنَّها في غُرفتي، حَثَّني على أَخْذِها، ولكنَّني سأَلتُهُ:
_ لماذا لا تَردُّ والدتي عليَّ ؟، إِبتسمَ وقالَ : _إِنَّها تَنتظرُكَ منذُ سَنواتٍ ؛ فلْنَتعجَّلْ بالـذَّهابِ إِليها، كأَنَّهُ يُشيرُ إلى كَمِّ تَقصيري، أَو أَنَّهُ يُهمِّشُ اسْتِفساري عنْ غِيابِها، وأنا المُقصِّرُ!. لَمْ أَتضايقْ، وأنا أَخْطو مَعَهُ نحوَ سَيَّارتهِ، وأُخفي حَماسةً، وبَهجةً كانتْ قَدْ غادرتْ رُوحي، وإِحساسي مُنذُ سنواتٍ. كمْ بَدوتُ صغيرًا في عَينِ نَفسي. أنا هُنا بعدَما أَضعْتُ نَفْسي، وأَدركتُ أَنْ لا وطنَ يُشبهُ الأُمَّ ، ولا أُخوَّةَ كأَصحابِ الطُّفولةِ. بعدَ أَنْ نَفضَتِ الكُهولةُ الجَسدَ، والهِمَّةَ، وتَسلَّلَتِ الأَفكارُ، والمَشاعرُ مِن قلبي، أَجِدُني عُدتُ! ؛ أَتنفَّسُ هُنا مُشارِكًا الهواءَ مَعهمْ، مَعها، ومعَ مَدينتي. وَجهُهُ الثابتُ أَكثرَ مِنَ المُفترَضِ كانَ يَجعلُني أَرى خوفًا يَتسرَّبُ، وكلماتٍ لا يُمكنُ البَوحُ بها، لكنَّني اكْتفيتُ بمُتابعةِ الطَّريقِ، والجوابِ عنْ بَعضِ الأَسئلةِ عنْ الغُربةِ والأَحوالِ. أنا مَوقِدُ حُزنٍ صغيرٍ يَتنقَّلُ بصَمتٍ. سأَلتُهُ : _كيف صِحَّةُ والدتي؟ ،
_أَجابَني بلا تَردُّدٍ : مُرتاحةٌ كثيرًا!، كانتْ تُعاني بِشِدَّةٍ قبلَ سنواتٍ، لكنَّها الآنَ أَفضلُ .
الطريقُ الذي لَمْ أَتبيَّنْ مَلامحَهُ تَوقَّفَ هو فيهِ لحظاتٍ . أَبصرتُ بيتًا مُضيئًا، جَميلًا، لكنَّهُ ليسَ بيتي!. نَزلَ وطَلبَ منِّي النُّزولَ معهُ ،
بقَدمٍ ثقيلةٍ امْتثلتُ. إِنْفرجتْ بَوَّابةُ البيتِ عنْ طِفلَتينِ تَركضانِ نحوَهُ، جَميلَتينِ، ضَفائرُهما أَخذتْني لوَهجِ طُفولتي، حيثُ كانَتِ البَناتُ يَظْهرْنَ كالآلهةِ.
_بيتُكَ ؟ _تَفضَّلْ، أَجابَني، وانْفرجَتْ وَجْنتايَ، وجَبيني عنْ عُبُوسٍ حَيٍّ.
لماذا أَصبحتْ رُؤيةُ أُمِّي شاقَّةً هكذا! ؟. إِنْشغلَ هو عنِّي، بعدَما أَدْخلَني بيتَهُ: بيتٌ مُريحٌ، كلُّ تَفاصيلِهِ مُفْعمةٌ بالوِدِّ. جاءَني بالضِّيافةِ، وطَلبَ منِّي أَنْ أَذْهبَ إلى غُرفةٍ خاصَّةٍ؛ للنَّومِ فيها ،
ولكنَّني تَوقَّفتُ عنِ الإِمتثالِ، وأنا أَنظرُ إليهِ بصمتٍ. شَعرتُ بأَنَّهُ يُخْفي عنِّي حُزنًا كبيرًا: خبرَ مَوتٍ ، أَو مَرضًا ؛ تَسارَعَ فِيَّ نَبضُ الإِرْتجافِ. عَرفتُ أَنَّني قَدْ خَسِرتُها للأَبدِ ، وأَنَّ الأَملَ، والوطنَ، والأَحاسيسَ، مَحْضُ نافِذةٍ لصَدمةٍ تُهَيَّأُ لي، ويُحاوِلُ هو بطِيبتِهِ، وخَوفِهِ تَأْخيرَها عَليَّ. سَقطتُ على الأَريكةِ، وحولي الدُّخانُ الأَزرقُ. يَبدو أَنَّ هناك قِطًّا أَبيضَ يُهروِلُ، ويُوقِدُ مَعركةً تَحتَ قَدَمي.
لَمْ أَستَطِعْ فَتْحَ عينايَ أَكثرَ. إِستَسلَمْتُ للخَيبةِ، ولتِلكَ الفِكرةِ، ولَمْ يُحاوِلْ هو طَمْأَنَتي، بلْ جَلَبَ بعضَ الماءِ في قَدحٍ، وغَسَلَ بهِ وَجهي. كنتُ أَشعرُ بعَطشٍ، وخَوفٍ، كُنتُ أُريدُ أَنْ يُعاملَني أَحدُهمْ بخُشُونةٍ، وقُوَّةٍ، ويُخبرُني بالحقيقةِ المُرَّةِ!، لِيَقُلْ لي: إِنَّ وَهمَ عَباءَتِها قَدْ تَلاشى ، وإِنَّ الزَّمنَ لَمْ يَعُدْ يَحتفِظُ بالأُمَّهاتِ طويلًا.
_مُرْسلُ،!.
وجاءَ الصَّوتُ في نَقاوةِ السَّمعِ، ونَبيلِ الصَّدى إِلى فُؤادي :
_إِنْهَضْ إِنَّهُ وَقتُ الصَّلاةِ.. صَوتُها، حَثُّها، حِرصُها!.
نَهضْتُ مِن رَقدَتي على الأَريكةِ، كمْ نِمتُ لتُوقظَني هي الآنَ!؛ وتَقولَ لي إِنَّهُ الفجرُ الجميلُ !!؟. أَينَ ذلكَ الصَّديقُ الذي حَمَلَني كمَا الحَمَامِ الزَّاجلِ إِليها! ؟ . آهٍ! كمْ لَوَّثتْ بالَيَ الظُّنونُ، ووَهَنتُ!.
صِرتُ أُقبِّلُ يَديَها بلَهفةٍ. نَعمْ، لقَدْ كُنتُ مُحِقًّا ؛ فقَدْ رَسَمتِ الشَّيخوخَةُ على مُحيَّاها الذُّبولَ.
_أَينَ كُنتِ؟، نَطقْتُها كطِفلٍ في الرَّابعةِ، يخافُ أَنْ يُضيِّعَ والدتَهُ ،
إِبْتَسمتْ، وأَشارتْ إلى يَدِها الثَّانيةِ؛ لِأَعرفَ أَنَّها كانتْ تَضَعُ مَحْلولَ عِلاجٍ ما.
_أنا أَعيشُ مَعَهمْ مُنذُ سَنواتٍ، بعدَما ساءَتْ حالَتي الصِّحيَّةُ، وطَلَبَ (حسنُ)، وزَوجتُهُ مِنِّي بلُطفٍ، وحَنانٍ كَبيرَينِ أَنْ أَكونَ لهُ أُمًّا بَديلةً عنْ والدتِهِ المُتوفَّاةِ، وأَنْ يَكونَ ابْنًا مُؤقَّتًا حتَّى تعودَ.
لَمْ أَعُدْ أَرى دُخانًا!، لَمْ أَعُدْ لِأَرى مَوتًا، أَو أُجاري قَدَرًا مُرًّا ؛ بلْ جِئتُ مَحظوظًا، أَحصِدُ مِن شَجرةِ الحياةِ أُخُوَّةً ، ودَعمًا، أضعْتُهُ في غُربتي القاسيةِ التي هَشَّمتْ نَفْسيَّتي، وصَلابَتي. _حَسَنُ، أَينَ حَسَنُ! ؟،
ليَدخُلَ عليَّ بابْتسامتِهِ المأْلوفةِ ، وعَيناهُ _ وهي تَقدَحُ بشَهامتِهِ وفِطنتِهِ_ على الجِدارِ، في غُرفةِ المَعيشةِ في بيتِهِ، رَأَيتُ صُورةً تَجمعُني بهِ مُنذُ كُنَّا صِغارًا . وكمْ كانتْ أَيَّامُنا كِبارًا، والنُّفوسُ وَديعةَ المَحبَّةِ.
⅜