باحث يعلن عن دراسة تقييمية لمشروع إيصال المياه إلى قضاء شط العرب (مشروع الهدامة): الواقع والتحديات والحلول الاستراتيجية
دراسة تقييمية لمشروع إيصال المياه إلى قضاء شط العرب (مشروع الهدامة): الواقع والتحديات والحلول الاستراتيجية
رياض العيداني
أولاً :..المقدمة..
تُعد محافظة البصرة من المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الاقتصادية الكبرى، لما تحتويه من موارد طبيعية وبنى تحتية نفطية وموانئ حيوية ومع ذلك، فإنها تعاني ومنذ عقود من أزمات متتالية في قطاع المياه ، نتيجة التغيرات البيئية الإقليمية ، وسوء الإدارة المحلية ، وغياب الخطط المستدامة للتعامل مع التحديات المائية.
ومن أبرز هذه الأزمات وأكثرها تأثيراً هي ظاهرة ارتفاع نسب الملوحة في مياه شط العرب، التي تفاقمت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، حتى أصبحت تشكّل تهديداً مباشراً ليس فقط للبيئة المحلية ، بل أيضاً لصحة الإنسان ، والأمن الغذائي ، والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المحافظة ، إذ يُعد شط العرب المصدر الأساسي لمياه الشرب والزراعة في البصرة ، وانهيار نوعيته يعني تعطيل سبل الحياة الأساسية.
ويعود السبب الرئيسي لزيادة ملوحة المياه إلى تراجع الإطلاقات المائية من نهري دجلة والفرات بسبب السياسات المائية غير المتوازنة للدول المتشاطئة ، وعلى رأسها تركيا وإيران. فقد قللت تركيا من تدفقات نهر دجلة بفعل مشاريعها الكبيرة على النهر، بينما حولت إيران مجرى نهر الكارون ، الذي كان يغذي شط العرب، إلى داخل أراضيها ، ما أدى إلى تقليص التغذية المائية الطبيعية لمجرى شط العرب ، فضلاً عن ذلك الضغوط المحلية، مثل تجاوزات مزارع الأسماك العشوائية في أعالي نهر دجلة في محافظة ميسان، إذ تقوم هذه المزارع بسحب كميات هائلة من المياه وإعادتها ملوثة بالأعلاف والمخلفات العضوية ، كما أن الكثير من الأنهار الفرعية التي تصب في شط العرب تحوّلت إلى مجاري للصرف الصحي، ما زاد من تلوث المياه ورفع ملوحتها إلى مستويات غير مقبولة صحياً.
وقد أدّت هذه العوامل مجتمعة إلى تسجيل نسب ملوحة خطيرة في عدة محطات ماء بالبصرة، حيث بلغ مجموع الأملاح الذائبة الكلية (TDS) في محطة البراضعية 15,400 ميليغرام/لتر، وفي محطة سيحان 38,000 ميليغرام/لتر، وذلك بتاريخ 2 تموز 2025، وهي مستويات بعيدة جداً عن المعايير الصحية لمياه الشرب التي يجب أن لا تتجاوز 500 ميليغرام/لتر حسب منظمة الصحة العالمية.
وقد تسببت هذه الأزمة في أحداث كارثية سابقة ، لا سيما في عام 2018، حين أدى تلوث المياه إلى تسمم أكثر من 100,000 مواطن في البصرة ، بحسب تقارير وزارة الصحة العراقية ، وكانت مناطق قضاء شط العرب هي الأكثر تضرراً ، كونها تعاني أصلاً من غياب شبكة مياه شرب مركزية ، ولا تمتلك محطة تحلية عاملة ، كما أنها غير مشمولة بمشروع “البدعة” الذي يزود أغلب مناطق المحافظة بالمياه العذبة من مياه نهر الفرات.
هذا الواقع دفع الجهات المحلية إلى التفكير في حلول بديلة وأكثر جدوى من الناحية الاستراتيجية، كان أبرزها مشروع “الهدامة” الذي لم يرى النور بعد ، الذي اقترح عام 2018 لإيصال المياه العذبة من نهر دجلة إلى قضاء شط العرب، عبر أنابيب ضخمة تمتد لمسافة طويلة، بهدف كسر الاعتماد الكلي على مياه شط العرب الملوثة. إلا أن المشروع واجه عقبات متعددة، ما أدى إلى توقفه رغم توفر التمويل اللازم.
ومع اشتداد الأزمة مجدداً عام 2025، أصبح من الضروري إعادة النظر في هذا المشروع بجدية أكبر، وتحليله من منظور اقتصادي وإداري وهندسي، لفهم أبعاده الحقيقية، وتحديد العوامل التي تحول دون إنجازه، تمهيداً لاتخاذ قرارات استراتيجية قد تكون كفيلة بإنهاء واحدة من أسوأ الأزمات الخدمية في البصرة المعاصرة.
ثانياً : مشروع إيصال المياه (الهدامة)
في ضوء المعاناة المستمرة لسكان شط العرب، تم في عام 2018 طرح مشروع استراتيجي يُعرف بمشروع “الهدامة”، بهدف إيصال مياه نهر دجلة مباشرةً إلى القضاء باستخدام أنابيب ذات قطر كبير (1400 ملم) تمتد لمسافة 85 كم. بلغت الكلفة التقديرية للمشروع نحو 185 مليار دينار عراقي، موزعة على مرحلتين:
1 – المرحلة الأولى (2019): تجهيز الأنابيب، بكلفة 94 مليار دينار.
2 – المرحلة الثانية (2022): تنفيذ المشروع، بكلفة 91 مليار دينار.
ورغم صرف كامل التخصيصات، لم يُستكمل تنفيذ المشروع حتى الآن لأسباب غير معلومة رسمياً، ما يستدعي تدقيقاً إدارياً ومالياً عاجلاً.
ثالثاً : محطات التحلية المقترحة وحجم العجز.
مع تفاقم الأزمة مجددًا في حزيران 2025، تم تشكيل لجنة محلية برئاسة المحافظ، واقتُرح إنشاء عدة محطات لتحلية المياه بطاقة تصميمية تبلغ 3000 م³/ساعة لكل منها إلا أن هذه المحطات تواجه جملة من التحديات هي كالتالي :
1 – لا تغطي سوى 15% من حاجة السكان الفعلية.
2 – تعمل بطاقة إنتاجية لا تتجاوز 60%.
3 – لا تزيد ساعات التشغيل اليومية عن 18 ساعة، نظراً لحاجة المحطات إلى 6 ساعات يومياً لعمليات الغسل والتنظيف.
هذه الحلول المؤقتة لا تفي بالغرض ، وتفتقر إلى الجدوى الاقتصادية في ظل الأزمات المتكررة.
رابعاً : المسار الإداري المعقد للمشاريع
يعاني تنفيذ المشاريع في العراق من بيروقراطية مركبة تبدأ من إعداد الدراسة الفنية والاقتصادية، مروراً بالحصول على الموافقات التخطيطية، وإدراجها ضمن الموازنة المركزية، وانتهاءً بالمصادقة من البرلمان ورئيس الوزراء، ثم انتظار إطلاق التخصيصات من وزارة المالية ، هذه السلسلة الطويلة من الإجراءات تؤخر كثيراً من المشاريع الملحة.
خامساً : الحلول الاستراتيجية المقترحة.
أولاً: الإسراع في استكمال مشروع الهدامة، خاصة أنه مموّل بالكامل من تخصيصات محافظة البصرة، ويعد الحل الأسرع والأقل كلفة مقارنة بالمشاريع الجديدة.
ثانياً: إنشاء محطة حرارية لتوليد الكهرباء في منطقة كتيبان ، مع ربطها بوحدة تحلية مياه باستخدام حرارة التوليد كمنتج عرضي ، وهو ما يحقق استفادة مزدوجة للمواطنين ، وتجدر الإشارة إلى أن قطعة الأرض مخصصة منذ عام 1975 لهذا الغرض.
التوصيات :
إن مشروع الهدامة لا يمثل فقط حلاً عملياً لأزمة المياه في شط العرب، بل هو فرصة لإعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطن من خلال مشاريع بنى تحتية حقيقية كما أن إدماج الحلول المستدامة مثل الطاقة الحرارية وتحلية المياه يعد توجهاً استراتيجياً يعزز الأمن المائي والطاقي في البصرة على المدى الطويل.