قراءة مهنية في حادثة وفاة الطبيبة النفسية (بان زياد) الدكتور عقيل الصباغ / استشاري الطب النفسي

الدكتور عقيل الصباغ / استشاري الطب النفسي

الانتحار هو أي فعل متعمد يقدم عليه الإنسان لإنهاء حياته بإرادته، وفي حال لم يكتمل الفعل لأي سبب، يطلق عليه محاولة انتحار.
من الناحية العلمية، يمكن أن يقف وراء الانتحار مرض نفسي مثل الاكتئاب أو الفصام أو غيرهما من الاضطرابات العقلية، وقد يحدث من دون وجود تشخيص نفسي مسبق، إذ قد يخفي الشخص نواياه الحقيقية خلف مظهر اجتماعي طبيعي أو ناجح، حتى أمام أقرب الناس إليه . التاريخ الإنساني حافل بأمثلة لشخصيات فنية وسياسية وكوميدية بدت مشرقة أمام الجمهور لكنها أقدمت على الانتحار، مما يجعل التنبؤ به أمرًا بالغ الصعوبة ، أحيانًا يكون الانتحار مخططًا له مسبقًا، وأحيانًا أخرى يكون اندفاعيًا في لحظة ضيق حاد، وقد تظل بعض الحالات غامضة إذا لم تتوفر أدلة كافية ترجح أحد الاحتمالات.

عند التعامل مع أي وفاة مشبوهة بين الانتحار أو القتل، هناك ثلاث وسائل أساسية للتحقق:
الأولى هي التشريح الطبي العدلي، الذي يحدد السبب الفيزيولوجي للوفاة (مثل النزيف أو الاختناق أو التسمم)، لكنه قد لا يحدد الدافع ما لم تتوافر معطيات مساندة .
الثانية هي التحريات الجنائية، من خلال تحليل مسرح الحادث وجمع الأدلة المادية (مثل أدوات أو مواد سامة أو رسائل أو تسجيلات)، مع دراسة احتمالية كون الحادث جريمة قتل، والبحث عن الدافع والجهات المشتبه بها.
أما الثالثة فهي التشريح النفسي (Psychological Autopsy)، وهو أسلوب معتمد في الطب النفسي العدلي يهدف إلى تحليل الظروف النفسية والاجتماعية للمتوفى قبل الوفاة، من خلال جمع معلومات من العائلة والأصدقاء والزملاء، وتحليل السلوكيات والرسائل والتصرفات الأخيرة، ومراجعة التاريخ الطبي والنفسي، وربط كل ذلك بمسار الحادث . هذا الإجراء لا يشمل تشريحًا جسديًا، بل هو تحليل منهجي للحالة الذهنية في الفترة السابقة للوفاة، ويعد أداة مساندة مهمة لتقدير ما إذا كان الفعل انتحارًا أم غير ذلك.

في حادثة وفاة الزميلة الطبيبة النفسية (بان زياد)، تناولت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي القضية بكثافة كونها قضية معقدة فعلا ، مما اتاح المجال للبعض استثمار الحدث للترويج الاعلامي والخوض فيه دون معرفة ودراية، اكثر من ذلك ، دس البعض معلومات ومغالطات بعيدة عن الواقعة ، مما عزز عند عامة الناس التي تعاطفت مع الضحية فرضية القتل على الانتحار . وبوصفنا مختصين في الطب النفسي، كان من واجبنا المهني ومنذ اول يوم الحادث ، متابعة المعلومات المتاحة ، والتي حصلنا عليها لاحقا وتحليلها وفق الأطر العلمية، وبعد مراجعة المعطيات المرتبطة بالواقعة وبالحالة النفسية للفقيدة، تظل جميع الفرضيات خاضعة للتقييم في ضوء التحقيقات الرسمية، لكن المؤشرات المتوفرة حاليا من تحليل سلوكياتها الأخيرة و الادلة التي عثر عليها لاحقا و الظروف المحيطة – وفق التقييم المهني الأولي – تدفعنا على عدم استبعاد فرضية الانتحار، مع التأكيد على أن الحسم النهائي مرهون بنتائج التحريات الجنائية والطبابة العدلية .

أما عن التساؤل الذي يطرحه البعض حول إمكانية إقدام طبيب نفسي على الانتحار، فالإجابة أن الانتحار ظاهرة إجتماعية  لا تستثني أحدًا، والأطباء النفسيون أنفسهم قد يتعرضون للضغوط النفسية أو الاضطرابات التي تقود إلى الانتحار . توجد سوابق مهنية في العالم، وحتى في العراق، لأطباء نفسيين اقدموا على الانتحار، ما يؤكد أن المهنة لا تمنح حصانة مطلقة ضد المعاناة النفسية.

وفيما يتعلق بالجروح أو الإصابات الظاهرة على جسد الفقيدة، فإن الانتحار في بعض الحالات قد يتسم بسلوكيات تبدو غير منطقية أو شديدة القسوة على الذات، إذ قد يختار المنتحر وسائل عنيفة أو مؤلمة للغاية، مثل الحرق أو السقوط من ارتفاع أو القفز أمام مركبة أو قطع الشرايين بشكل عنيف ، وهناك حالات  انتحار في العالم مشابهة لحادثة د. بان دونتها دراسات نفسية و بالامكان الاطلاع عليها .

وفي الوقت الذي نقدر فيه مشاعر عامة الناس التي تعاطفت مع د. بان ، نود ان نقول بان الفقيدة
ذهبت الى بارئها، وهو ارحم الراحمين ومن حقها علينا كشف ملابسات الحادث بحيادية وعقلانية ، بعيدا عن العواطف و التشهير والاستعراضات الاعلامية ، وعلينا ايضا في نفس الوقت ان لا ننسى بان هناك ضحايا احياء هم اهلها، فبعد خسارتهم الكبيرة لابنتهم ، لازالوا تحت مرمى اتهامات الناس لهم بالضلوع في قتلها ، وهو اتهام اقسى من  فقدان ابنتهم .

ختامًا، إن التعامل مع مثل هذه الحوادث يتطلب الجمع بين الطب العدلي والتحقيق الجنائي والطب النفسي العدلي، مع احترام الخصوصية الإنسانية للفقيدة وعائلتها، وتجنب الجزم المسبق قبل اكتمال المسار القانوني والفني للتحقيق ، ونعلم بان راينا هذا غير ملزم للقضاء .
و انا اختم مقالي هذا اشعر بالحرقه لفقدان طبيبة عزيزة كانت طالبة لدينا و قد فقد الطب النفسي احد اعمدته فانا لله و انا له راجعون

زر الذهاب إلى الأعلى